من القيم إلى التشريعات.. كيف تتقاطع الأخوة الإنسانية مع مجالات حقوق الإنسان؟
بمناسبة اليوم الدولي للأخوة الإنسانية
في خضم عالم تسوده النزاعات السياسية، وتتصاعد فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، يظل مفهوم الأخوة الإنسانية واحدًا من الركائز الأخلاقية التي تسعى إلى تجاوز الفروقات بين البشر وتعزيز التعايش السلمي.
وفي المقابل، تمثل حقوق الإنسان منظومة قانونية مُلزمة تضع إطارًا لحماية الأفراد وضمان حقوقهم الأساسية، بينما تؤكد الأخوة الإنسانية على المشترك الإنساني العابر للثقافات، وتستند حقوق الإنسان إلى مبادئ قانونية تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة.
وهنا يبرز التساؤل: هل يمكن اعتبار هذين المفهومين امتدادًا لبعضهما البعض، أم أن هناك اختلافًا جوهريًا بينهما؟ وما التحديات التي تعترض تحقيق العدالة في ظل النزاعات السياسية والثقافية التي تعصف بالعالم؟
يُحتفى باليوم الدولي للأخوة الإنسانية في الرابع من فبراير من كل عام، وقد أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2020 بموجب القرار 75/200، تأكيدًا على أهمية تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات كوسيلة لتحقيق السلم الاجتماعي، ويرتبط هذا اليوم بلقاء تاريخي جمع بين الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، في أبوظبي عام 2019، حيث تم التوقيع على "وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"، التي باتت إحدى المرجعيات الأساسية لتعزيز قيم التعايش والتسامح في العالم.
ووفقًا لتقرير الأمم المتحدة لعام 2023، فإن 74% من النزاعات المسلحة حول العالم تنشأ على خلفيات دينية أو ثقافية، مما يبرز الحاجة إلى مبادرات كهذه لتعزيز التفاهم بين الشعوب
يرتكز مفهوم الأخوة الإنسانية على المبادئ الأخلاقية التي تعزز التعاون والتضامن بين البشر، متجاوزًا الحدود الجغرافية والاختلافات الدينية والثقافية، ففي دراسة أعدها مركز بيو للأبحاث عام 2023، وُجد أن 68% من سكان العالم يؤمنون بضرورة تعزيز التعاون بين الأديان كوسيلة لتحقيق السلم الاجتماعي، بينما أظهر تقرير آخر صادر عن معهد غالوب أن 52% من المستجيبين يرون أن التسامح الديني هو السبيل الأمثل لتعزيز التفاهم العالمي.
وتواجه هذه القيم تحديات جمة، خاصة في ظل تصاعد خطابات الكراهية، إذ أشارت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي لعام 2024 إلى أن جرائم الكراهية ارتفعت بنسبة 37% في أوروبا وحدها خلال السنوات الخمس الأخيرة، نتيجة تصاعد النزعات القومية والشعبوية.
أما حقوق الإنسان، فتستند إلى مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تهدف إلى ضمان الحماية القانونية للأفراد، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948، وضع أساسًا قانونيًا لحماية الحريات الفردية، إلا أن تطبيق هذه الحقوق يختلف من دولة إلى أخرى.
وفقًا لتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش لعام 2023، فإن 43% من دول العالم لا تلتزم كليًا بمعايير حقوق الإنسان، حيث تعاني بعض الدول من قمع الحريات السياسية، بينما تعاني أخرى من التمييز ضد الأقليات العرقية والدينية. هذا التفاوت يثير التساؤل حول مدى إمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التشريعات وحدها، دون وجود دعم أخلاقي يستند إلى قيم الأخوة الإنسانية.
تحقيق الكرامة الإنسانية
ورغم أن الأخوة الإنسانية وحقوق الإنسان يسعيان إلى تحقيق الكرامة الإنسانية، فإن الفارق الأساسي بينهما يكمن في طبيعة كل منهما؛ فالأخوة الإنسانية تُعد مفهومًا أخلاقيًا يستند إلى القيم المجتمعية، بينما حقوق الإنسان ترتكز على قوانين مُلزمة. لكن التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على التوفيق بين القيم الأخلاقية والإطار القانوني لضمان حماية حقوق الأفراد وتعزيز التعايش المشترك.
وأشار تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 2024، إلى أن أكثر من 2.5 مليار شخص يعيشون في دول تعاني من انتهاكات منهجية لحقوق الإنسان، مما يعكس الفجوة الكبيرة بين النصوص القانونية والواقع الفعلي.
وفي ظل النزاعات السياسية والصراعات المسلحة، يزداد التحدي تعقيدًا، حيث تؤدي هذه الأوضاع إلى تقويض كلٍّ من مبادئ الأخوة الإنسانية ومعايير حقوق الإنسان، وتشير إحصائيات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أن عدد اللاجئين حول العالم بلغ 108.4 مليون شخص في نهاية عام 2023، بزيادة 20% مقارنة بعام 2020، وذلك بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية، ويواجه هؤلاء اللاجئون تحديات كبيرة، من بينها نقص الحماية القانونية والتمييز في المجتمعات المضيفة، مما يبرز الحاجة إلى نهج يجمع بين الأخلاق والقانون لضمان حقوقهم وحمايتهم.
وفي ما يتعلق بالدور الذي تلعبه المؤسسات الدولية في تحقيق هذا التوازن، فإن الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الحقوقية تعمل على دمج قيم الأخوة الإنسانية في آليات تنفيذ حقوق الإنسان، حيث أطلقت الأمم المتحدة في عام 2022 مبادرة "التعليم من أجل الأخوة الإنسانية"، التي تهدف إلى إدخال مفاهيم التسامح والسلام في المناهج التعليمية، وقد أظهرت دراسة أجرتها اليونسكو عام 2023 أن الطلاب الذين يتلقون تعليمًا قائمًا على قيم التسامح أكثر استعدادًا بنسبة 42% للانخراط في العمل المجتمعي وتعزيز السلام في مجتمعاتهم.
ورغم الجهود المبذولة، لا تزال هناك تحديات تعيق تحقيق هذا التوازن، من أبرزها التباين في تفسير مفاهيم حقوق الإنسان عبر الثقافات المختلفة، فعلى سبيل المثال، بينما تنظر بعض الدول إلى حقوق الإنسان كإطار عالمي موحد، ترى دول أخرى أن هناك خصوصيات ثقافية يجب أخذها بعين الاعتبار. في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "بيو" عام 2023، تبين أن 58% من سكان الدول العربية يرون أن بعض بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تتوافق مع القيم الثقافية لمجتمعاتهم، مما يثير تساؤلات حول مدى إمكانية تطبيق هذه الحقوق بشكل شامل دون المساس بالهويات الثقافية المختلفة.
ويرى خبراء، أن العلاقة بين الأخوة الإنسانية وحقوق الإنسان ليست علاقة تناقض، بل تكامل يمكن أن يحقق العدالة الاجتماعية إذا ما تم دمج القيم الأخلاقية مع الأطر القانونية، فبينما توفر حقوق الإنسان الحماية القانونية، تمنح الأخوة الإنسانية الزخم الأخلاقي اللازم لتطبيق هذه الحقوق على أرض الواقع، وتحقيق التوازن بينهما يتطلب جهودًا متعددة المستويات، تشمل التعليم، والتوعية، والتعاون الدولي، لضمان أن تكون العدالة والمساواة قيمًا عالمية تحكم المجتمعات البشرية، بغض النظر عن اختلافاتها السياسية أو الثقافية.
هل تكفي الأخوة الإنسانية لحماية الحقوق؟
قالت خبيرة حقوق الإنسان، حورية مشهور، إن الأخوة الإنسانية تستند إلى قيم أخلاقية تتجذر في الأديان والموروثات الثقافية، تدعو إلى التسامح والتضامن والتعايش بين البشر، دون أن تكون لها صفة الإلزام القانوني، وفي المقابل، تقوم حقوق الإنسان على مبادئ قانونية مُلزمة، تهدف إلى وضع ضمانات واضحة تمنع الانتهاكات وتفرض العقوبات عند الإخلال بها، وهذا الفرق الجوهري هو الذي يجعل الجمع بين المفهومين أكثر تعقيدًا مما يبدو، خاصة في ظل تباين الأولويات بين المنظومة الأخلاقية والمنظومة القانونية. إحدى الإشكاليات الأساسية في هذا التداخل تكمن في أن الأخوة الإنسانية، رغم كونها قيمة نبيلة، لا توفر حماية قانونية فعلية للفئات الأكثر عرضة للانتهاكات.
وتابعت مشهور، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن المساواة لا يمكن أن تتحقق بمجرد دعوات أخلاقية، بل تحتاج إلى أدوات قانونية تفرض الالتزام بها، مثل المحاكم الدولية والاتفاقيات الحقوقية الملزمة للدول، وبالنظر إلى الواقع، فإن عددًا من الدول التي تتبنى خطاب الأخوة الإنسانية تمارس انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، سواء عبر التمييز ضد الأقليات أو قمع حرية التعبير، ما يطرح تساؤلًا حول مدى صدقية هذا المفهوم عندما لا يكون مصحوبًا بتشريعات نافذة وآليات تنفيذية.
وأشارت إلى أن الحقوق، في جوهرها، لا يجب أن تُترك للضمير الإنساني وحده ليحميها، لأن التجربة التاريخية أثبتت أن الأخلاق وحدها لا تكفي لضمان العدالة.
العبودية، والتمييز العنصري، واضطهاد المرأة، كلها ممارسات استمرت لعقود بل لقرون تحت ذرائع دينية أو ثقافية، رغم أن الأخوة الإنسانية كانت قائمة كمفهوم أخلاقي في العديد من المجتمعات وحدها القوانين الملزمة، مثل تلك التي نصت عليها العهود الدولية لحقوق الإنسان، استطاعت وضع حد لهذه الممارسات، فالمادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تحظر التعذيب، وهو مبدأ قانوني صارم، بينما مفهوم الأخوة الإنسانية يكتفي بالتنديد الأخلاقي بالتعذيب دون أي إلزام قانوني لمنعه.
وقالت إن المعضلة الأخرى تتجلى في أن الأخوة الإنسانية يمكن أن تُوظف كأداة لتبرير عدم اتخاذ مواقف صارمة تجاه انتهاكات حقوق الإنسان، بحجة التسامح والتعايش. كثيرًا ما تُطرح هذه الحجة عند التعامل مع أنظمة سياسية قمعية أو دول تمارس التمييز الممنهج ضد فئات معينة، إذ يتم الترويج لضرورة "تفهم الخصوصيات الثقافية" عوضًا عن المطالبة الصريحة باحترام الحقوق، هنا يظهر التضارب الواضح بين منطق الحقوق الذي يستند إلى مبادئ عالمية، ومنطق الأخوة الإنسانية الذي قد يتم توظيفه لاستيعاب التفاوتات الثقافية حتى لو كانت على حساب كرامة الأفراد.
وشددت على أنه لا يمكن إنكار أن الأخوة الإنسانية تلعب دورًا داعمًا لحقوق الإنسان، خاصة عندما تكون المجتمعات غير مهيأة بعد لتقبل القوانين الحقوقية الصارمة، فمن خلال تعزيز ثقافة التفاهم والتسامح، يمكن خلق بيئة مساندة لحقوق الإنسان، بحيث تصبح هذه الحقوق جزءًا من وعي المجتمع قبل أن تكون مجرد التزام قانوني، وقد أظهرت دراسات أجرتها منظمة اليونسكو أن المجتمعات التي تتبنى مناهج تعليمية تعزز قيم الأخوة والتسامح تكون أكثر ميلًا لاحترام حقوق الإنسان، وهو ما يعكس أن الدمج بين المفهومين قد يكون مفيدًا إذا تم بطريقة تضمن عدم التنازل عن الالتزامات القانونية.
وأتمت، لا يمكن وضع الأخوة الإنسانية وحقوق الإنسان في كفة واحدة، لأن أحدهما يقوم على القيم والمبادئ الأخلاقية، بينما الآخر يستند إلى القانون والإلزام. لكن يمكن تحقيق التوازن بينهما عبر جعل القيم الأخلاقية رافدًا لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، وليس بديلاً عنها، فالمجتمع الذي يحترم حقوق الإنسان لن يكون بحاجة إلى دعوات للأخوة كي يتوقف عن انتهاك حقوق الآخرين، لأنه ببساطة سيكون ملزمًا قانونيًا بذلك، وليس فقط أخلاقيًا. إن حقوق الإنسان هي التي تحمي الضعفاء والمهمشين، بينما الأخوة الإنسانية وحدها قد تبقى مجرد دعوة جميلة غير قادرة على تغيير الواقع ما لم تترافق مع التزام قانوني صارم.
الأخوة والحقوق.. تكامل أم تناقض؟
وفي السياق القانوني، قال خبير القانون الدولي، كمال يونس، إن الأخوة الإنسانية وحقوق الإنسان مفهومان يتداخلان في كثير من الجوانب، لكنهما يختلفان من حيث الطبيعة القانونية والإلزامية، فالأخوة الإنسانية تقوم على قيم أخلاقية وفلسفية، تدعو إلى التعايش والتسامح والتضامن بين البشر، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية أو الثقافية أو العرقية. في المقابل، حقوق الإنسان هي مجموعة من القواعد القانونية التي تكرس التزامات محددة على الدول والأفراد، وتهدف إلى حماية كرامة الإنسان وضمان العدالة والمساواة وفقاً للمعايير الدولية، ومن منظور القانون الدولي، لا يمكن اعتبار الأخوة الإنسانية بديلاً عن حقوق الإنسان، لأن الأولى تستند إلى مبدأ طوعي أخلاقي، بينما الثانية تتمتع بقوة الإلزام القانوني.
وتابع يونس، في تصريحات لـ"جسور بوست"، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، والعهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، واتفاقيات جنيف لعام 1949، كلها نصوص ملزمة تشكل الإطار القانوني لحقوق الإنسان، وتُلزم الدول باحترامها وتنفيذها، وهذه المواثيق تفرض مسؤوليات قانونية على الدول، وتمنح الأفراد وسائل قانونية للمطالبة بحقوقهم، على عكس الأخوة الإنسانية التي تعتمد على إرادة الأفراد والمجتمعات لتحقيقها.
وأضاف أن القانون الدولي لا يمكنه وحده تحقيق العدالة الإنسانية دون وجود روح الأخوة والتضامن بين الشعوب. فمثلاً، محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وهما من أهم المؤسسات القضائية الدولية، تعتمدان في قراراتهما على المعاهدات والاتفاقيات، لكنهما في الوقت ذاته تحتاجان إلى دعم دولي وتضامن إنساني لتنفيذ الأحكام وضمان عدم الإفلات من العقاب. فالقانون بدون التزام أخلاقي يفقد معناه، والأخلاق بدون إطار قانوني تظل مجرد دعوات غير مُلزمة.
وأشار يونس، إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الجمع بين المفهومين هو التناقض بين مبادئ القانون الدولي والمصالح السياسية للدول. فالكثير من الأنظمة السياسية تستخدم لغة الأخوة الإنسانية للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، فبعض الدول تدعو إلى التسامح والحوار بين الأديان بينما تمارس التمييز ضد الأقليات، أو تروج لخطاب السلام والتعايش بينما تنتهك حقوق اللاجئين والمهاجرين، وهذا يثير تساؤلات حول مدى صدق الالتزام بمبادئ الأخوة الإنسانية إذا لم تكن مدعومة بإصلاحات قانونية حقيقية.
وقال إنه في الوقت الذي تواجه فيه حقوق الإنسان تحديات كبيرة مثل تصاعد النزاعات المسلحة، وعودة الخطابات القومية المتطرفة، وتراجع دور المنظمات الدولية، تبدو الحاجة ملحة إلى إيجاد آلية تجمع بين القوة القانونية لحقوق الإنسان والقيم الأخلاقية للأخوة الإنسانية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تعزيز الالتزام الدولي بالاتفاقيات الحقوقية، وتفعيل دور المجتمع المدني في الرقابة، وتشجيع الخطاب الأخلاقي الذي يدعم المساواة والعدالة في كل المستويات.
وأتم، الأخوة الإنسانية وحقوق الإنسان ليسا متناقضين، ولكنهما ليسا متطابقين أيضاً، فالأولى تمثل الأرضية الأخلاقية التي تجعل تطبيق الثانية أكثر فعالية، بينما توفر الثانية الآليات القانونية التي تحول الأولى من مجرد شعارات إلى واقع ملموس، لذلك، لا يمكن الاكتفاء بأحدهما دون الآخر، بل يجب تكاملهما لضمان حماية الكرامة الإنسانية عالمياً.